فصل: تفسير الآيات (5- 8):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

قال الشنقيطي:
قوله تعالى: {لَقَدْ خلقنا الإنسان فِي أحسن تقويم}
هذه الآية الكريمة توهم أن الإنسان ينكر أن ربه خلقه، لما تقرر في المعاني من أن خالي الذهن من التردد والإنكار لا يؤكّد له الكلام، ويسمّى ذلك ابتدائيا، والمتردد يحسن التوكيد له بمؤكد واحد ويسمى طلبيا، والمنكر يجب التوكيد له بحسب إنكاره ويسمى إنكاريا، والله تعالى في هذه الآية أكّد إخباره بأنه خلق الإنسان في أحسن تقويم بأربعة أقسام وباللام وبقد، فهي ستة تأكيدات، وهذا التوكيد يوهم أن الإنسان منكر لأن ربه خلقه، وقد جاءت آية أخرى صريحة في أن الكفار يقرّون بأن الله هو خالقهم وهي قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقولنَّ اللَّهُ}.
والجواب من وجهين:
الأول: هو ما حرره علماء البلاغة من أن المقر إذا ظهرت عليه أمارة الإنكار جعل كالمنكر، فأكد له الخبر كقول حجل بن نضلة:
جاء شقيق عارضا رمحه ** إنّ بني عمك فيهم رماح

فشقيق لا ينكر أنّ في بني عمه رماحا، ولكن مجيئه عارضا رمحه أي جاعلا عرضه جهتهم من غير التفات أمارة أنه يعتقد أن لا رمح فيهم فأكد له الخبر.
فإذا حققت ذلك فاعلم أن الكفار لما أنكروا البعث ظهرت عليهم أمارة إنكار الإيجاد الأول؛ لأن من أقر بالأول لزمه الإقرار بالثاني؛ لأن الإعادة أيسر من البدء فأكد لهم الإيجاد الأول، ويوضّح هذا أن الله بيّن أنه المقصود بقوله: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بالدين} أي ما يحملك أيها الإنسان على التكذيب بالبعث والجزاء بعد علمك أن الله أوجدك أوّلا، فمن أوجدك أوّلا قادر على أن يوجدك ثانيا كما قال تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} الآية، وقال: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} الآية، وقال: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خلقناكُمْ مِنْ تُرَاب} والآيات بمثل هذه كثيرة، ولذا ذكر تعالى أن من أنكر البعث فقد نسي إيجاده الأول بقوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قال مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}، وبقوله: {وَيَقول الإنسان أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً أَوَلا يَذْكُرُ الإنسان أَنَّا خلقناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً}.
وقال البعض: معنى {فَمَا يُكَذِّبُكَ}: فمن يقدر على تكذيبك يا نبي الله بالثواب والعقاب بعد ما تبين له أنا خلقنا الإنسان على ما وصفنا، وهو في دلالته على ما ذكرنا كالأوّل، فظهرت النكتة في جعل الابتدائي كالإنكاري.
الوجه الثاني: أن القسم شامل لقوله: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أسفل سافلين} أي إلى النار، وهم لا يصدّقون بالنار بدليل قوله تعالى: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} وهذا الوجه في معنى قوله: {أسفل سافلين} أصح من القول بأن معناه الهرم والرد إلى أرذل العمر لكون قوله: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ ممنون} أظهر في الأول من الثاني، وإذا كان القسم شاملا للإنكاري فلا إشكال؛ لأن التوكيد منصبّ على ذلك الإنكاري، والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.تفسير الآيات (5- 8):

قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أسفل سافلين (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ ممنون (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بالدين (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الحاكمين (8)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان الإنسان مع هذه المحاسن قد سلط الله سبحانه وتعالى عليه شهوات وهيأ طبعه لرذائل وأخلاق دنيئات، وأهوية وحظوظ للأنفس مميلات، وكان أكثر الخلق بها هالكاً لتتبين قدرة الله سبحانه وتعالى، لم يستثن بل حكم على الجنس كله بها كما حكم عليه بالتقويم، فقال تعالى دالاً بأداة التراخي على أن اعوجاجه بعد ذلك العقل الرصين والذهن الصافي المستنير في غاية البعد لولا القدرة الباهرة والقوة القاسرة القاهرة: {ثم رددناه} أي بما لنا من القدرة الكاملة والعلم الشامل، فعطل منافع ما خلقناه له فضيع نفسه وفوّت أساب سعادته ونكسناه نحن في خلقه، فصار بالأمرين في خلقه وخلقه نفساً وهوى أو أعم من ذلك بالنكس {أسفل سافلين} أي إلى ما تحت رتبة الجمادات المستقذرات، فصار يعمل الأعمال السيئات المقتضية بعد حسن الجمع لغاية الشتات، أما رده في خلقه فبأن سلطنا عليه الشهوات التي ركبناها في النفوس، وجعلناها داعية إلى كل بؤس، فغلبت على عقله فأعمته حتى أوردته الموارد، وأوقعته في المهاوي والمعاطب، حتى أنه ليركب كثيراً من أموره وهو قاطع بأنه باطل شنيع، لا يقدم على مثله عاقل، فصار يعبد من دون الله ما هو دون البشر بل ومطلق الحيوان مما لا ضر فيه ولا نفع، وصار يركب الظلم والعدوان والإفك والبهتان، وما لا يحصى بالعد من أنواع الفواحش والعصيان، ويظلم أبناء جنسه وغيرهم، ويجتهد في الفجور، ويتصرف بما لا يشك هو في أنه لا يقره عليه من له أدنى نظر ممن يلزمه أمره ويعنيه شأنه، فصار بذلك أحط رتبة من البهائم بل من أدنى الحشرات المستقذرات لأنها وإن كانت لها شهوات إلا أنها ليس لها عقل تغطيه بها وتطمس نوره بظلامها، فلا تنسب إلى أنها فوّتت شيئاً لعدم تكليفها لعدم العقل الموجب للشرف، وأما هو فاستعمل ما خلقناه له من الآلات، وما فضلناه به من الكمالات، في غير ما خلقناه له فاستحق العذاب المهين، ثم يموت من غير مجازاة على شيء من ذلك أو على كثير منه، فلابد في الحكمة حينئذ من بعثه، وله بعد البعث عند ربه على ذلك عذاب مقيم، وأما في خلقه فبالهرم حتى صار بعد تلك القوى ضعيفاً، وبعد ذلك العز ذليلاً مهيناً، وبعد ذلك العلم الغزير والفكر المنير لا يعلم شيئاً، وصار يستقذره وينكره من كان يألفه ويستعطره.
وقال ابن برجان: أما رده في طريق الديانة فبالكفر والتكذيب، وأما فيما سبيله الجزاء فبالمسخ في دار البرزخ وتحويل صورته إلى ما غلب عليه خلقته وعمله في الدنيا من الدواب والهوام والبهائم، وفي الآخرة تزرق عيناه ويشوه خلقه.
وقال الإمام أبو العباس الأقليشي في شرح (المقدم المؤخر) من شرحه للاسماء الحسنى: إن الله تعالى خلقه.
أي الإنسان- أولاً في أحسن تقويم، ثم ركبه في هذا الجسم الذي يجذبه إلى أسفل سافلين، فإن قدم عقله على هواه صعد إلى أعلى عليين، وكان من المقربين المقدمين، وإن قدم هواه هبط إلى إدراك الجحيم، وكان من المبعدين المؤخرين.
ولما حكم بهذا الرد على جميع النوع إشارة إلى كثرة المتصف به منهم، وكان الصالح قليلاً جدًّا، جعله محط الاستثناء فقال: {إلا الذين آمنوا} أي بالله ورسله فكانوا من ذوي البصائر والمعارف، فغلبنا بلطفنا عقولهم بما دعت إليه وأعانت عليه الفطرة الأولى على شهواتهم، وحميناهم من أرذل العمر، فكانوا كلما زدناهم سناً زدنا أنوار عقولهم ونقصنا نار شهواتهم بما أضعفنا من إحكام طبائعهم وتعلقهم بهذا العالم، وأحكمنا من مدارك أنوار الحق وإشراقاته منهم، وأعظمنا من قوى أرواحهم.
ولما كان الإنسان قد يدعي الإيمان كاذباً قال: {وعملوا} أي تصديقاً لدعواهم الإيمان {الصالحات} أي من محاسن الأعمال من الأقوال والأفعال ثابتة الأركان على أساس الإيمان، محكمة بما آتيناهم من العلم غاية الإحكام، متقنة غاية الإتقان، فإنا حفظناهم- وقليل ما هم- بما كملناهم به وشرفناهم على جميع الحيوانات وسائر من سواهم فلم نمكن منهم الشهوات ولا غيرها، وأقمناهم على ما اقتضاه منهاج العقل، فتبعوا الرسل بسبب إبقائنا لهم على الفطرة الأولى في أحسن تقويم، لم يدنس محياها بشهوة ولا حظ ولا هوى، فسهل انقيادهم، فأداهم ذلك إلى العدل والنصفة والإحسان، وجميع مكارم الأخلاق ومعالي الأمور، ولم يزيغوا عن منهاج الرسل في قول ولا عمل، فالآية كما ترى من الاحتباك: حذف أولاً بما أفهمته الآية عمل السيئات، وثانياً الإبقاء على أصل الخلق في أحسن تقويم على الفطرة الأولى، ليكون نظمها في الأصل {ثم رددناه أسفل سافلين} بعمل السيئات فله على ذلك عذاب مهين {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} فإنا أبقيناهم على الفطرة الأولى في أحسن تقويم.
ولما كان السياق لمدح المؤمنين، حسن أن يعد أعمالهم التي تفضل عليهم بها سبباً كما منّ عليهم به من الثواب فقال: {فلهم} أي فتسبب عن ذلك أن كان لهم في الدارين على ما وفقوا له مما يرضيه سبحانه وتعالى: {أجر} أي عظيم جدًّا وهو مع ذلك {غير ممنون} أي مقطوع أو يمن عليهم به حتى في حالة المرض والهرم لكونهم سعوا في مرضاة الله سبحانه وتعالى وعزموا عزماً صادقاً أنهم لا ينقصون من أعمال البر ذرة ولو عاشوا مدى الدهر، وذلك الأجر جزاء لأعمالهم فضلاً منه بالأصل والفرع حتى أنهم إذا عجزوا بالهرم كتب لهم أجر ما كانوا يعملون في حال الصحة، ولمن تابع هواه في السفول عذاب عظيم لأنه رد أسفل سافلين.
ولما ثبت بهذا أنه لا يجوز في الحكمة تركهم بغير جزاء مع ما يشاهد من ظلم بعضهم لبعض معاندة لما يقتضيه قويم العقل الذي لا شك فيه، فكان ذلك بحيث لا يرضاه أحد منهم ولا يقر مخلوق عبيداً في ملكه على مثله بأن يبغي بعضهم على بعض فيهملهم بل لابد أن يحجز بينهم أو يأخذ للمظلوم من الظالم، ولو كان ذلك المالك أقل الناس وأجهلهم فكيف إن كان عاقلاً فكيف إن كان حاكماً فكيف إن كان لا يخاف أحداً فكيف إن كان عدلاً مقسطاً قد ثبتت إحاطة علمه وقدرته سبحانه وتعالى، حسن كل الحسن أن يكون ذلك سبباً للإنكار على من يظن أن الله يهمل عباده من الحكم بينهم لمجازاة كل من المطيع والعاصي بما عمل مع ما ترى من ظلم بعضهم لبعض، وأن الظالم قد يموت قبل القصاص، فقال مسبباً عن الوعد بما أفصح به الكتاب من إثابة المؤمنين الذي طالما بغى عليهم الظلمة، وانتقصهم حقوقهم الفسقة، والوعيد بما أفهمه الخطاب لعتاب المجرمين الذين طالما بغوا على غيرهم: {فما} أي فتسبب عن إقامة الدليل على تمام القدرة وعلى بغي العبيد بعضهم على بعض أنه يقال لك تصديقاً لك فيما أخبرت به من أن الله سبحانه وتعالى يبعث الخلائق بعد موتهم ليجازي كلاًّ بما عمل وإنكاراً على من كذبك: ما {يكذبك} أي أيّ شيء ينسبك إلى الكذب يا أشرف الخلق وأكملهم نفساً وأتقاهم عرضاً وأطهرهم خلقاً وخلقاً، وعبر بـ: (ما) إشارة إلى أن الكذب بهذا مع هذا الدليل القطعي الذي تضمنته هذه السورة في عداد ما لا يعقل بل دونه {بعد} أي بعد مشاهدة بغي بعض الناس على بعض استعمالاً لحال النكس، وأعراه من الجار إشارة إلى أن من آمن قبل الغرغرة واتصل إيمانه ذلك بموته كان ممن له أجر غير ممنون {بالدين} أي الجزاء لكل أحد بما يستحقه على سبيل العدل والإنصاف لأجل تلك الأعمال التي غلبت فيها الحظوظ على العقول، فوقع بها من الظلم والأذى ما لا يسع عاقلاً من العباد أن يحسن عنده ترك فاعلها من غير جزاء حتى كان أكثر أفعال العباد ظلماً، ومن شأن الملوك الإنصاف بين عبيدهم ورعاياهم، فكيف بالله سبحانه وتعالى الذي شرع لعباده ذلك، وقد ثبت بما له من هذا الخلق العظيم، على هذا النظام المحكم والمنهاج الأقوم أنه الحكيم، الذي لا حكيم غيره، العليم الذي لا عليم سواه.
ولما صح أن تارك الظالم بغير انتقام والمحسن بلا إكرام ليس على منهاج العدل الذي شرعه الله تعالى، حسن جدًّا تكرير الإنكار بقوله سبحانه وتعالى: {أليس الله} أي على ما له من صفات الكمال، وأكده بالجار في قوله: {بأحكم الحاكمين} أي حتى يدع الخلق يهلك بعضهم بعضاً من غير جزاء، فيكون خلقهم عبثاً، بل هو أحكم الحاكمين علماً وقدرة وعدلاً وحكمة بما شوهد من إبداعه الخلق ومفاوتته بينهم، وجعل الإنسان من بينهم على أحسن تقويم، فلابد أن يقيم الجزاء ويضع الموازين القسط ليوم القيامة فيظهر عدله وحكمته وفضله، وهذا الآخر هو أولها قسماً من جهة النبوات التي ظهر بها حكمه وحكمته، ومقسماً عليه من حيث إن الخلق في أحسن تقويم يقتضي العدل لا محالة، والرد أسفل سافلين يتقاضى الحكم حتماً لأجل ما يقع من الظلم والتشاجر بين من استمر على الفطرة القويمة ومن رد لأسفل سافلين، وقد اشتملت هذه السورة على وجازتها على جميع مقاصد التوراة إجمالاً، وزادت الدلالة على الآخرة، وذلك أن قسمها هو قوله في التوراة (أتانا ربنا من سيناء وشرق بنا من جبل ساعر، وظهر لنا من جبال فاران) والخلق في أحسن تقويم هو خلق آدم عليه الصلاة والسلام المذكور في أولها وخلق زوجه وما يحتاجان إليه من السماء والأرض، وخلق الأصفياء من أولادهما وما جاؤوا به من الخير، والذين آمنوا وعملوا الصالحات هو ما فيها من الشرائع والأحكام، وقوله بعد ما تقدم من المعبر بالمقسم عنه (معه ربوات الأطهار عن يمينه أعطاهم وحببهم إلى الشعوب، وبارك على جميع أطهاره) والرد أسفل سافلين هو ما ذكر أولها من العصاة من قابيل ومن بعده إلى آخرها، على ما أشار إليه من عصيان بني إسرائيل الموجب للعنهم، فقد اكتنفت بأول التوراة وآخرها وأوسطها، وابتدأ بآخرها لأنه في النبوات، وهي أهم المهم لأنها المنجية من شر قطاع الطريق، وآخرها أدل ما فيها على النبوات لاسيما الثلاث العظام- المشار إليه بقسم هذه السورة- والله سبحانه وتعالى أعلم بالغيب. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أسفل سافلين (5)}
ففيه وجهان:
الأول: قال ابن عباس: يريد أرذل العمر، وهو مثل قوله: يرد إلى أرذل العمر، قال ابن قتيبة: السافلون هم الضعفاء والزمني، ومن لا يستطيع حيلة ولا يجد سبيلاً، يقال: سفل يسفل فهو سافل وهم سافلون، كما يقال: علا يعلو فهو عال وهم عالون، أراد أن الهرم يخرف ويضعف سمعه وبصره وعقله وتقل حيلته ويعجز عن عمل الصالحات، فيكون أسفل الجميع.
وقال الفراء: ولو كانت أسفل سافل لكان صواباً، لأن لفظ {الإنسان} واحد، وأنت تقول: هذا أفضل قائم ولا تقول: أفضل قائمين، إلا أنه قيل: {سافلين} على الجمع لأن {الإنسان} في معنى جمع فهو كقوله: {والذى جَاء بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ المتقون} [الزمر: 33] وقال: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ} [الشورى: 48].
والقول الثاني: ما ذكره مجاهد والحسن ثم رددناه إلى النار.
قال علي عليه السلام: وضع أبواب جهنم بعضها أسفل من بعض فيبدأ بالأسفل فيملأ وهو أسفل سافلين.
وعلى هذا التقدير فالمعنى ثم رددناه إلى أسفل سافلين إلى النار.
أما قوله تعالى: {إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} فاعلم أن هذا الاستثناء على القول الأول منقطع، والمعنى ولكن الذين كانوا صالحين من الهرمى فلهم ثواب دائم على طاعتهم وصبرهم على ابتلاء الله أياهم بالشيخوخة والهرم، وعلى مقاساة المشاق والقيام بالعبادة وعلى تخاذل نهوضهم، وأما على القول الثاني فالاستثناء متصل ظاهر الاتصال.
أما قوله تعالى: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ ممنون} ففيه قولان:
أحدهما: غير منقوص ولا مقطوع.
وثانيهما: أجر غير ممنون أي لا يمن به عليهم، واعلم أن كل ذلك من صفات الثواب، لأنه يجب أن يكون غير منقطع وأن لا يكون منغصاً بالمنة.
{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بالدين (7)} وفيه سؤالان:
الأولى:
من المخاطب بقوله: {فَمَا يُكَذّبُكَ}؟
الجواب فيه قولان:
أحدهما: أنه خطاب للإنسان على طريقة الالتفات، والمراد من قوله: {فَمَا يُكَذّبُكَ} أن كل من أخبر عن الواقع بأنه لا يقع فهو كاذب، والمعنى فما الذي يلجئك إلى هذا الكذب.
والثاني: وهو اختيار الفراء أنه خطاب مع محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى فمن يكذبك يا أيها الرسول بعد ظهور هذه الدلائل بالدين.
السؤال الثاني:
ما وجه التعجب؟
الجواب: أن خلق الإنسان من النطفة وتقويمه بشراً سوياً وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يكمل ويستوي، تم تنكيسه إلى أن يبلغ أرذل العمر دليل واضح على قدرة الخالق على الحشر والنشر، فمن شاهد هذه الحالة ثم بقي مصراً على إنكار الحشر فلا شيء أعجب منه.
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الحاكمين (8)} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
ذكروا في تفسيره وجهين.
أحدهما: أن هذا تحقيق لما ذكر من خلق الإنسان ثم رده إلى أرذل العمر، يقول الله تعالى: أليس الذي فعل ذلك بأحكم الحاكمين صنعاً وتدبيراً، وإذا ثبتت القدرة والحكمة بهذه الدلالة صح القول بإمكان الحشر ووقوعه، أما الإمكان فبالنظر إلى القدرة، وأما الوقوع فبالنظر إلى الحكمة لأن عدم ذلك يقدح في الحكمة، كما قال تعالى: {وَمَا خلقنا السماء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا باطلا ذلك ظَنُّ الذين كَفَرُواْ} [ص: 27].
والثاني: أن هذا تنبيه من الله تعالى لنبيه عليه السلام بأنه يحكم بينه وبين خصومه يوم القيامة بالعدل.
المسألة الثانية:
قال القاضي: هذه الآية من أقوى الدلائل على أنه تعالى لا يفعل القبيح ولا يخلق أفعال العباد مع ما فيها من السفه والظلم، فإنه لو كان الفاعل لأفعال العباد هو الله تعالى لكان كل سفه وكل أمر بسفه وكل ترغيب في سفه فهو من الله تعالى ومن كان كذلك فهو أسفه السفهاء، كما أنه لا حكمة ولا أمر بالحكمة ولا ترغيب في الحكمة إلا من الله تعالى، ومن كان كذلك فهو أحكم الحكماء، ولما ثبت في حقه تعالى الأمران لم يكن وصفه بأنه أحكم الحكماء أولى من وصفه بأنه أسفه السفهاء.
ولما امتنع هذا الوصف في حقه تعالى علمنا أنه ليس خالقاً لأفعال العباد والجواب: المعارضة بالعلم والداعي، ثم نقول: السفيه من قامت السفاهة به لا من خلق السفاهة، كما أن المتحرك والساكن من قامت الحركة والسكون به لا من خلقهما، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. اهـ.